رحلة النور: من غار حراء إلى نور العالم

📜 مختصر السيرة النبوية الشريفة

محمد الهاشمي

5/8/2024

🔹 الولادة والنشأة: من اليُتم إلى الرحمة

وُلد النبي محمد ﷺ في مكة المكرمة في عام الفيل، عام 571 ميلادية تقريبًا. وهو العام الذي حاول فيه أبرهة الحبشي هدم الكعبة، فحماها الله بمعجزة مذكورة في سورة الفيل. وُلد يتيم الأب، فقد توفي عبد الله بن عبد المطلب وهو في بطن أمه آمنة بنت وهب، التي كانت من أطيب نساء قريش نسبًا وخلقًا.

نشأ في بيئة قاسية، فتوفيت أمه وهو في السادسة من عمره، أثناء عودتها به من زيارة قبر زوجها في يثرب (المدينة المنورة لاحقًا). كفله جده عبد المطلب، الذي كان سيد قريش، لكنه توفي بعد عامين، فكفله عمه أبو طالب، الذي أحبه كأحد أبنائه وحماه طوال حياته.

عاش النبي ﷺ في كنف قبيلة قريش، وكان يعمل في رعي الغنم ثم في التجارة، وظهرت عليه منذ صغره صفات الصدق والأمانة، حتى لُقّب بـ"الصادق الأمين". لم يسجد لصنم قط، وكان يأنف من مفاسد الجاهلية، ويحب الخلوة والتأمل.

طفولته وشبابه كانت تمهيدًا ربانيًا لنبوته، حيث نشأ في نقاء داخلي وعفة لسان ونظافة قلب، مما جعله مؤهلاً لحمل أعظم رسالة في التاريخ.

🔹 النبوة والوحي: اقرأ… فبدأ النور

في سن الأربعين، كان محمد ﷺ قد اعتاد الخلوة في غار حراء خارج مكة، يتأمل الكون ويتفكر في الخالق. وفي إحدى ليالي رمضان، نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي لأول مرة، وقال له: "اقرأ." فكانت هذه اللحظة بداية التحول الأعظم في تاريخ البشرية.

ارتجف قلب النبي من هول الحدث، فعاد إلى زوجته خديجة رضي الله عنها يقول: "زملوني، زملوني." فطمأنته وأخذته إلى ورقة بن نوفل، ابن عمها، وكان نصرانيًا عارفًا بالكتب، فأخبره أن ما نزل عليه هو نفس الوحي الذي نزل على موسى.

بدأت البعثة المحمدية في زمن كانت فيه البشرية تغرق في الظلم والجهل، فجاء محمد ﷺ بدعوة للتوحيد، للعدل، للرحمة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور. استمرت فترة انقطاع الوحي بعد أول نزول، حتى عاد إليه بقوة بقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ."

منذ تلك اللحظة، لم يعرف محمد ﷺ الراحة. أصبح رسول الله المكلف بتبليغ آخر الرسائل السماوية. بداية الوحي كانت صادمة، لكن الله هيّأه لتحمل الأمانة، فصبر، وجاهد، حتى اكتمل الدين وبلغ النور مشارق الأرض ومغاربها.

🔹 الدعوة: سرًا ثم جهرًا

بدأ النبي ﷺ دعوته سرًا، خوفًا على أصحابه الجدد من بطش قريش. استمرت هذه المرحلة حوالي ثلاث سنوات، وكان يدعو المقرّبين منه، فأسلم على يديه عدد من خيرة الصحابة، كأبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وغيرهم.

كان اللقاء يتم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، بعيدًا عن أعين الناس، حيث تعلّم الصحابة العقيدة والصلاة والقرآن. ومع الوقت، أمره الله بالجهر بالدعوة، فقال: "فاصدع بما تُؤمر." فصعد النبي ﷺ جبل الصفا ونادى قريشًا، وأعلن لهم أنه رسول الله، يدعوهم لعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام.

قوبلت دعوته بالاستهزاء، والسخرية، ثم الأذى الجسدي والمعنوي. اتهموه بالكذب والسحر والجنون، رغم أنهم كانوا يلقبونه قبلها بـ"الصادق الأمين". لكن النبي ﷺ لم يتراجع، بل ثبت وصبر، وازداد عدد المؤمنين، وإن كان الأذى يشتد عليهم.

بلغ الأذى ذروته بحصار شعب أبي طالب، ثم وفاة زوجته خديجة وعمه أبي طالب، فسُمي ذلك العام بـ"عام الحزن". لكن مع كل ذلك، بقي محمد ﷺ وفيًا لرسالته، يزرع الإيمان في القلوب، ويُعدّ الأمة القادمة لتكون نورًا للعالم.

🔹 الهجرة: الانتقال من الاستضعاف إلى التمكين

بعد سنوات من التضييق والأذى في مكة، أذن الله لنبيه ﷺ بالهجرة إلى المدينة المنورة (يثرب آنذاك)، حيث بايع أهلها النبي على نصرته وحمايته، فيما عرف بـ"بيعة العقبة". كانت الهجرة لحظة مفصلية، انتقل فيها الإسلام من مرحلة الدعوة تحت الضغط، إلى مرحلة بناء الدولة.

أمر النبي ﷺ أصحابه بالهجرة سرًا، ثم خرج هو برفقة أبي بكر الصديق في رحلة محفوفة بالمخاطر. مكثا في غار ثور ثلاث ليالٍ، وتبعهما المشركون حتى وصلوا باب الغار، لولا أن الله حفظ نبيه، فأنزل سكينته وقال له: "لا تحزن إن الله معنا."

استُقبل النبي ﷺ في المدينة استقبالًا عظيمًا، وكان يوم دخوله إليها يوم فرح، أنشد فيه الأنصار: "طلع البدر علينا..."، وبدأ عهد جديد من الحرية والتمكين.

أسّس النبي ﷺ أول دولة إسلامية، وبنى المسجد، وأخا بين المهاجرين والأنصار، ووضع "وثيقة المدينة" لتنظيم العلاقة بين سكانها من المسلمين واليهود والمشركين. كانت الهجرة بداية الانطلاق نحو الفتح والنصر، وبداية لعصر الإسلام العملي على الأرض.

🔹 الغزوات والجهاد: نصر بعد صبر

منذ أن استقر النبي ﷺ في المدينة، بدأت التهديدات من قريش والقبائل الأخرى، فاضطر للدفاع عن دولته ودينه. خاض أولى معاركه الكبرى في غزوة بدر، حيث انتصر المسلمون رغم قِلّتهم، فكان ذلك نصرًا عظيماً أظهر قوة الحق.

ثم جاءت غزوة أحد، التي كانت درسًا للمسلمين في الطاعة والانضباط، فقد انهزموا بعد أن خالف بعضهم أمر النبي، لكنها زادتهم صلابة. ثم جاءت غزوة الأحزاب (الخندق)، حين تجمعت قبائل العرب للقضاء على الإسلام، لكن بصبر المؤمنين وحفر الخندق، ردّ الله الكفار بغيظهم.

في السنة الثامنة للهجرة، تحقق أعظم انتصار في فتح مكة، عندما دخلها النبي ﷺ بجيش قوامه 10,000 مسلم، دون قتال يُذكر. وهناك أعلن العفو الشامل، وقال لأهلها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء."

جهاد النبي ﷺ لم يكن حبًا في القتال، بل دفاعًا عن العقيدة والحرية، وإزالة للظلم والفساد. كانت غزواته دروسًا في القيادة، الرحمة، الشجاعة، وضبط النفس. ومع كل نصر، كان يتواضع، ويشكر الله، ويزداد حلمًا ورحمة.

🔹 الرحمة المهداة: خُلُقه القرآن

كان النبي محمد ﷺ أعظم مثال للرحمة، كما وصفه الله: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين." لم تكن رحمته قاصرة على المسلمين، بل شملت الصغار والكبار، الأعداء والأصدقاء، الإنسان والحيوان.

كان يُقبّل الأطفال، ويجلس مع الفقراء، ويقضي حوائج الناس بنفسه. كان إذا دخل عليه أحد يرتجف هيبةً، يقول له: "هوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد." تواضعه كان يعلو على الجميع، حتى إن الجارية كانت تأخذ بيده أينما شاءت.

عند فتح مكة، رغم ما فعله أهلها به من إيذاء وطرد وحرب، عفا عنهم جميعًا. لم يكن في قلبه حقد، بل قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء." وحين مات أحد أعدائه، بكى عليه لأن روحه لم تسلم، وقال: "نفسي تفلتت مني إلى النار."

كان ﷺ يعفو عند المقدرة، ويبتسم في وجه من آذاه، ويأمر بالرفق حتى في الحرب. أخلاقه كانت تجسيدًا عمليًا للقرآن، حتى قالت أم المؤمنين عائشة: "كان خُلُقه القرآن."

من عرف نبي الرحمة ﷺ، أحبّه بصدق، لأنه لم يكن مجرد زعيم، بل قدوة لكل قلب يبحث عن النور.

🔹 الوفاة: اكتمال الرسالة ورحيل النور

في السنة العاشرة للهجرة، حجّ النبي ﷺ حجة الوداع، وخطب في الناس خطبة عظيمة ودّعهم فيها، وقال: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا." وشعر المسلمون بأن وقت الفراق قد اقترب. نزل عليه قوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم..." فعلم أن الرسالة قد تمت.

عاد النبي ﷺ إلى المدينة، وبدأ يشعر بوعكة شديدة. اشتد عليه المرض، فكان يزور بيوت زوجاته، ثم استقر في بيت عائشة رضي الله عنها، حيث توفي. في آخر لحظاته، كان يردد: "بل الرفيق الأعلى..."، وودّع الدنيا في يوم الاثنين، 12 ربيع الأول، وعمره 63 سنة.

صدم الصحابة بخبر وفاته، حتى قال عمر بن الخطاب: "من قال إن محمدًا مات، قطعت رأسه!" لكن أبا بكر ثبت، وقال كلمته الخالدة: "من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت."

بوفاته ﷺ، انطفأ جسد النور، لكن بقي نوره في القلوب. ترك لنا كتاب الله، وسنّته، وأمته، التي حملت الرسالة من بعده. ورحل من الأرض، لكنه بقي أعظم من مرّ عليها.